زلزال غزة- تحولات فكرية وإبداعية بعد صدمة 7 أكتوبر

المؤلف: محمود سلطان08.11.2025
زلزال غزة- تحولات فكرية وإبداعية بعد صدمة 7 أكتوبر

غالبًا ما تمثل اللحظات التاريخية البارزة، بحسب أهميتها وتأثيرها، نقطة تحول مصيرية، تقود إلى مسارات مختلفة تمامًا. ولا تقتصر هذه الأحداث على إحداث "نتائج" تتعارض جذريًا مع الأسس التي أدت إليها، بل تعمل أيضًا على إعادة تشكيل ملامح العالم وجوهره الأخلاقي والإنساني والفلسفي.

ولا أجانب الحقيقة إذا ادعيت أن في طليعة هذه "الأحداث/المنعطفات" تبرز الحركة الطلابية التي انطلقت في فرنسا عام 1968، والتي هزت أركان العالم وأعادت توحيده ضد "إنسان البعد الواحد"، كما وصفه الفيلسوف "هربرت ماركوز"، ضد النزعة الاستهلاكية المتفشية، وتفاقم مشاعر القلق وخلق الحاجات الوهمية التي تلازمه على الدوام.

منبع الإلهام

تلك الحركة التي أرسَتْ الأرضية لأكبر إضراب عمالي شهدته فرنسا – بمشاركة 11 مليون عامل - مما دفع بالرئيس الفرنسي الأسبق "شارل ديغول" إلى الفرار سرًا إلى ألمانيا.

وامتدت ارتدادات هذه الحركة إلى فيتنام، لتصبح منارة إلهام للشباب في الصين (خلال الثورة الثقافية)، وقوة دافعة لمناهضة الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة (حيث تصاعدت حدة الحركات المناهضة للحرب في فيتنام)، كما ألهمت الحراك في إيطاليا، واليابان (الجيش الأحمر)، وتشيكوسلوفاكيا (الانتفاضات الإصلاحية)، وفلسطين (الانتفاضة الفلسطينية)، وكانت محفزًا لليسار العربي في مواجهة القمع السلطوي المستشري.

حتى بات "مايو 1968"، كما وصفه الفيلسوف الفرنسي اليساري "آلان باديو"، بمثابة "النسخة الفرنسية لظاهرة عالمية"، وقوضت كل أشكال النفاق الاجتماعي والأخلاقي والسياسي التي طغت على سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكشفت - على حد تعبير "فلورنس جوتييه" - الزيف الأيديولوجي الذي ساد آنذاك في المعسكرين الشرقي والغربي.

وفي هذا السياق، قامت بتمييز طبقات النخبة: "التقدمية" التي ساندتها - (سارتر، وميشيل فوكو، وجيل دولوز) - و "الرجعية" التي اعتبرتها "نزوية جماهيرية"؛ (كلود ليفي ستراوس)، أو مجرد دراما اجتماعية. وأصرّت على ضرورة نزع القداسة عنها (ريمون آرون)، وتصدّر المشهد الإبداعي جيل جديد من النقاد والمبدعين الرواد: (دريدا، وفوكو، وبارت، وكريستيفا، وفيليب سولرز، وجان ريكاردو).

انهيار وتخلٍّ عن الذات

عشيّة انطلاق الحركة الطلابية الباريسية بعام واحد، شهد العالم العربي زلزالًا مدمرًا هو الأعنف في تاريخه الحديث، تمثل في هزيمة عام 1967. ورغم فداحة هذه الهزيمة، إلا أنها لم تُحدث "حراكًا أو فرزًا" حقيقيًا، وما يترتب على ذلك بطبيعة الحال من إنتاج سياسي وثقافي وإبداعي يختلف عما كان سائدًا قبل النكسة. إذ انخرط المثقفون في السردية ذاتها التي تبنتها القوى السياسية المهزومة، مع وجود هامش ضئيل من النصوص الروائية النقدية التي وظفت - بمهارة - الإسقاط والرمز والتلميح الآمن والإيحاء، وذلك على مستوى الجماعة.

بيد أن الهزيمة أثرت بشكل بالغ وعميق على بعض المبدعين، فمنهم من سقط في براثن الاكتئاب الذي قاده إلى الانتحار، ومنهم من تخلى عن "ذاته/ العبثية" ليتحول بشكل كامل - بمفرده - إلى حركة احتجاجية استهدفت مباشرة القيادات السياسية التي تسببت في الهزيمة.

قبل هزيمة يونيو، كان نزار قباني يُعرف بلقب "شاعر النساء والحب"، وفي تلك الفترة أصدر ثلاثة دواوين شعرية: "قالت لي السمراء"، عندما كان طالبًا في كلية الحقوق، ثم "طفولة نهد"، و "الرسم بالكلمات".

وكما ألحقت هزيمة 67 دمارًا بصلاح جاهين في مصر، فقد تركت الأثر ذاته على نزار قباني في دمشق، ولكن مع اختلاف في الوعي بدور الشعر النضالي لدى الشاعرين.

في القاهرة، تحول جاهين تقريبًا إلى شخص محطم، مثقل بضمير يعذبه ويحاصره، ولم يترك له فرصة للخروج من ظلمة الاكتئاب إلى التشبث بقشة الأمل، حتى وإن كانت بعيدة المنال. فبعد أن كتب "صورة" و"يا ولاد بلدي" و"والله زمان يا سلاحي".. سقط في مستنقع الابتذال، فكتب سيناريو "خلي بالك من زوز"، و"أميرة حبي أنا"، وأغنية "الدنيا ربيع"، وأغنية "الدنيا بقى لونها بمبي"، مما أثار الشفقة عليه من جانب، وسخرية المثقفين الثوريين وتهكمهم عليه من جانب آخر، حتى قال له نجيب سرور: "بمبي يا صلاح؟ بمبي ولسه البلد خربانة؟ بمبي ودم إخواتنا لسه مبردش في سينا؟". وانتهت المشاجرة بمغادرة صلاح جاهين باكيًا مقهى الفيشاوي، حيث التقيا.

انهار جاهين مع الانهيار السياسي للمشروع الناصري، وهزيمة ضباط يوليو، ولكن - على النقيض تمامًا - أدت آلام النكسة ومرارة الهزيمة إلى تحويل نزار قباني من التفرغ لـ "تحرير الحب"، وكما كتب يومًا: "إن الحب في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره"، إلى رائد النضال بالشعر من أجل الديمقراطية وجلد الدكتاتوريات التي قادت إلى التراجع الحضاري للأمة.

حتمية تصدع النظام الدولي

وعلى هامش هذا السياق، كانت هناك حالات أخرى، ربما لم تحظَ بالشهرة ذاتها لنهاية جاهين ومأساويتها، مثل: انتحار الروائي الأردني تيسير السبول، واليسارية المصرية أروى صالح، والشاعر اللبناني خليل حاوي؛ نتيجة للقهر السياسي والاجتماعي ودخول الإسرائيليين إلى لبنان في حالة الأخير.

وكنتيجة حتمية لغياب نضوج وتكامل تيار إبداعي/ فكري جديد، يضطلع بمهمة الاحتواء وتقديم مدونة جديدة مغايرة لما سبق، ومقنعة بأنها انخرطت في حراك إصلاحي وتجديدي يعيد الأمل في أن هناك فائدة من وجوده ومن قيمة ما يضيفه إلى إنسان ما بعد الأزمات التاريخية الكبيرة.

لم يشهد العالم العربي حدثًا قد يقسم العرب - والعالم بأسره كذلك - إلى ما قبل وما بعد كما فعلت أحداث 7 أكتوبر 2023، وما تلاها من مشاهد مروعة في غزة، والتي زلزلت العالم وبعثرت صورته التي كانت نتاج تركة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا الصدد، توالت التحليلات الرصينة التي تؤكد على أن الحرب الأخيرة ستؤدي حتمًا إلى انهيار النظام الدولي الراهن، وستدفن تحت أنقاض غزة منظومة القيم الغربية والأميركية التي كانت في العادة مصدر إلهام وإبهار، خاصة في دول الشرق الأوسط التي تكابد معاناة قاسية في التحرر من القبضة الأمنية والمخابراتية، والتي تسحق حقوق الإنسان فيها.

وفي هذا السياق - بطبيعة الحال - يجري الآن فرز للطيف الفكري والثقافي وملحقاته من إبداع وغيره على تنوعه واتساعه.

وكما أفرزت الانتفاضة الطلابية في مايو 1968 في باريس تيارًا جديدًا ومدارس نقدية وإبداعية تقدمية - "تحتقر" الكتل الإسمنتية من المفكرين والمبدعين الذين وقفوا ضدها.. وانحازوا إلى حداثة ما قبل الستينيات التي صادرت "المعنى" داخل الإنسان الغربي، وحولته إلى مجرد "شيء" في ترس الرأسمالية المتوحشة، فإنه من المتوقع - من قبيل "حتمية الإذعان" للواقع الجديد - أن تختفي نخب ما قبل 7/10/2023.

خاصة أولئك الذين خذلوا المقاومة، إما بالسكوت؛ إرضاءً لحسابات سياسية داخلية، أو لتأمين أحلام ومكاسب وأشواق "شخصية" تتنافى مع الضمير والانتماء لقضايا الأمة.

ناهيك عمن استهانوا بتاريخهم، وانخرطوا فيما يشبه الكتائب الإلكترونية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتبنَّوا المحتوى ذاته الذي يتبناه الإعلام العسكري الإسرائيلي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة